اصول الغه العربيه الجزء الثالث

يذهب
مجموعة من النقاد إلى كون البلاغة العربية القديمة قد تميزت بنوع من
السلطوية في مفاهيمها ومصطلحاتها. أدى ذلك إلى صنميتها وتحجرها، لأنها لم
تستطع الانفتاح على الحقول المعرفية الحديثة والاستفادة منها. فهل حاول
البحث البلاغي العربي الوصول إلى وضع جديد؟ وكيف استفاد من الأبحاث
اللغوية الحديثة؟ وكيف سيعيد بناء نفسه؟
هذه الأسئلة الجوهرية،
وغيرها عالجها الباحث محمد العمري في كتابه الأخير (البلاغة العربية،
أصولها وامتداداتها)، الصادر عن دار افريقيا الشرق، بيروت - الدار
البيضاء، 1999 . في حوالي 550 صفحة. وقد احتفل الناشر بالكتاب باعتباره
مرجعا أساسيا، فأخرجه في طبعة مجلدة أنيقة. إنه جهد سنوات طوال كما يقول
الدكتور العمري نفسه. إن هذا ما تشهد عليه مادة الكتاب ومنهجه.
يتكون
الكتاب من قسمين ومقدمات وخلاصات. قام المؤلف - في المقدمات -، برسم خطوط
الطول والعرض لتاريخ البلاغة العربية، مبرزا مسارين كبيرين: مسار بلاغة
النص الخاص، ومسار النص العام.
أما القسم الأول، فقد ضمّ خمسة فصول. خصص لكل فصل رافد من روافد البلاغة العربية:
أ - البلاغة ونقد الشعر.
ب- البلاغة ومعيرة اللغة.
ج- من تبرير المجاز إلى بيان الإعجاز (البلاغة والنص المقدس).
د- البلاغة والمعرفة، من البيان إلى البلاغة.
ه- القراءة العربية للبلاغة اليونانية.

يهيمن
على هذا القسم، البعد التأريخي الشامل والكلي. وقد أشار إلى هذا الوعي
التأريخي الشمولي بقوله ( إن قصارى ما يطمح إليه كتاب البلاغة العربية
هو أن يكون خطوة في السعي لكتابة تاريخ شامل للبلاغة العربية)). ص8. وقد
شدد المؤلف على كلمة السعي. واذا كان البحث عن الأنساق الشاملة لصور
التوازن الصوتي هو الهم المتحكم في البعد التنظيري التحليلي، فإن الباحث
قد جعله من بين همومه الموجهة، حين عمل على إعادة قراءة تاريخ البلاغة
العربية واستخراج أنساق المؤلفات، في حوار بين المشاريع والمنجزات.

وضمّ القسم الثاني أربعة فصول خصصها المؤلف لتحديد المسارات الكبرى للبلاغة العربية، بعد أن استقلت بسؤالها الخاص وحددت موضوعها:

أ - مقدمات عامة، ممهدات وخلفيات.

ب- بين الغرابة الشعرية والمناسبة التداولية.


ج- بلاغة الصحة والتناسب.

د - البلاغة المعضودة (بالنحو والمنطق).

هذا
عن المجالات التي ارتادها الكتاب للاحاطة بهذا الموضوع الشاسع. أما المنهج
الذي اختاره المؤلف للمعالجة، فيتراوح بين الوصف والتفسير. يقول الدكتور
العمري، في خطبة الكتاب في مناجاة ودية للقاريء(ضع في حسابك، حفظك الله،
أن هذا العمل يستهدف طوائف من القراء من التلميذ في الثانوية العامة إلى
الطالب في الدراسات العليا المتخصصة، وإلى اللساني إلى المنطقي والفيلسوف
إلى المحامي المجتهد، فضلا عن الباحث المتخصص في البلاغة والأسلوبية،
يستهدف كل من يعاني اشكالات تحليل الخطاب من مراصده المتعددة.)) ص:5 .

لذلك، تعمد ألا يرضي طائفة على حساب أخرى، محاولا الجمع بين البعدين التربوي (البيداغوجي) والتأويلي.

يتجلى
البعد التربوى في تحليل مشاريع بعينها، انطلاقا من خطاطات تقوم على
الاختزال الدال. هذا البعد، يبدو من حيث الإجراء عملا وصفيا. لكنه يحمل
همّا إقناعيا. يقول( نريد أن نتفق أولا على محتويات المشاريع البلاغية
ومنجزاتها. وشتان ما بينهما في أغلب الأحوال. شتان مابين المنطلقات
والرغبات المعبر عنها وبين المنجز مما تتيحه الظروف المحيطة. فنأمل أن
يساعدنا هذا الإجراء على الخروج من حلقة الأمثلة المقطوعة عن السياق التي
لم تزدنا إلا تشويشا واختلافا في فهم الفكر البلاغي العربي وتقويمه. وحتى
إذا لم نتفق على خطاطة ما، فسيكون أمامنا شيء ملموس قابل للنقاش ص: 124 .

أما
البعد التأويلي، فيساهم في ربط المشاريع والمنجزات والكشف عن خلفياتها (أو
تفسيرها) واستكشاف مساراتها الكبرى. وقد حاول استكشاف الأرضية والمؤثرات
بشكل يقلل من قيمة الجدل حول الأصل العربي والأثر اليوناني، إن لم يجعله
عقيما، معتمدا في ذلك المفاهيم القرائية خاصة مفهوم التحويل.

إن
الملاحظة الجوهرية التي يمكن تسجيلها في هذا الإطار هي كون آليات القراءة
النسقية يحكمها التكامل والتفاعل. وقد استعان الباحث بالتفسير والتعليق
والتأويل بعد تركيب القضايا البلاغية التي تشكل نسقا معينا. كما يعمل
الباحث على التقليل من شبهة تحكم الإعجاز في البلاغة العربية التي تشكل
نسقا معينا. كما يعمل الباحثين على التقليل من شبهة تحكم الإعجاز في
البلاغة العربية، بل يجعله عنصر إغناء من حيث توجيه السؤال البلاغي وعمق
التحليل في القضايا المعتمدة: اللفظ أو المعنى. إن الحديث عن آليات
التأويل -كما حددها الدكتور العمري-، المرتبطة بالقراءة النسقية (حين
الحديث عن العلاقة بين البلاغة العربية القديمة والقراءة التأويلية
المقترحة) يحتم علينا الحديث عن الآليات الموظفة. ويمكن إجمالها كالتالي:

أ
- وصل القضايا بمرجعيتها: أمر وفّر للباحث والقاريء في الوقت نفسه، القدرة
على ربط الظواهر والقضايا بمسبباتها وارجاع الأمور إلى نصابها. هذا ما
يجعلنا نحدد بوضوح، المسارات الكبرى للبلاغة العربية ومسارات الدرس
البلاغي الحديث.

ب- المقارنة: باعتبارها استراتيجية أساسية في
القراءة النفسية، استفاد منها الباحث في خلق حوار فعال بين البلاغة
القديمة وهموم الدرس الأدبي الحديث على جميع المستويات: المقارنة بين
القضايا البلاغية المقروءة، المقارنة بين هموم البلاغة العربية والبلاغة
الحديثة، المقارنة بين مناهج الدرس البلاغي القديم ومناهج الدرس البلاغي
الحديث، ثم المقارنة بين أحوال البلاغة العربية وامتداداتها.

ج-
النقد والتمحيص: تتضح مظاهر هاتين الآليتين في نقد المادة البلاغية
المتعلقة بموضوع الموازنات، ونقد أنساق المؤلفات البلاغية وخططها، ونقد
المداخل النظرية حتى تنسجم وطبيعة الشعر الغنائي، كما حدث في تعامله مع
نظرية الموقع كما هي عند - ليفين-. وفي تعامله مع نظرية الانزياح- ECART،
كما هي عند جون كوهن- J.COHENفقد وجد أن ليفين ربط الموقع بمفهوم ضيق
للغة، ينحصر في مفهوم التركيب. ثم وسعه، ليشمل ما هو خارج عن اللغة، وذلك
بحديثه عن المعادلات الطبيعية والمواقع العروضية الوزنية والنّبرية.

إن
الهم الأساسي عند الدكتور العمري - في ربطه بين القديم والحديث-، يكمن في
اعطاء طابع تركيبي ورؤيا شمولية لمختلف مكونات التراث البلاغي العربي
القديم. فالاختيار الشعري والضرورة الشعرية وسؤال الإعجاز والبيان الخطابي
أو الإقناع، والقراءات العربية لكتابي الشعر والخطابة لأرسطوطاليس،
والبلاغة العامة التي تراوح بيت النصي والتداولي... كلها مكونات قد تبدو
منفصلة ومستقلة. لكنها في تصور الباحث العمري، متداخلة البنى والوظائف،
وتشكل حقيقة البلاغة العربية.

إن هذا التوجيه الشمولي، ينسجم
والقراءة التركيبية التي تعتمد النظرة الشمولية وتفهم السابق من اللاحق
واللاحق من السابق. وتربط بين أصول البلاغة وامتداداتها - ص:285 . ويدمج
الماضي بآفاق الحاضر. إن هذا التصور، جعل الباحث يؤكد على أن البلاغة
العربية، أوسع بكثير من هذا اللباس الضيق الذي حشرنا لها فيه حكمنا قراءة
واحدة هي قراءة السكاكي ثم المراغي.
وعن أهمية الكتاب وموقعه في
المكتبة العربية، يقول الدكتور العمري:. إن كتابة تاريخ للبلاغة العربية،
مسألة ملحة اليوم لعدة اعتبارات...ص:48 . ويركز الباحث على اعتبارين
اثنين، هما:
أ - اعتبار عام: واقعي وتاريخي، يتصل بقلة ما أنجز من
الدراسات في هذا المجال. فباستثناء أعمال قليلة، فإن الدراسات المنجزة في
مجال تاريخ البلاغة بالتحديد؛ دراسات جزئية، تتناول قضايا هي عبارة عن
لبنات من بناء تجب إقامته على قاعدة واسعة.

ب- اعتبار خاص قرائي:
أي منهاجي صرف؛ لأن المعطيات التي نملكها والامكانيات التي نسخرها، وتغيير
شروط القراءة وظروفها - يستوجب ذلك، كتابة تاريخ شامل للبلاغة العربية.
وعلى الرغم من الأعمال السابقة التي تناولت البلاغة العربية من خلال رؤى
مختلفة، فإنها لم تخرج عن مرحلتين متمايزتين:

أ - مرحلة السرد
التاريخي: تتناول البلاغة من منظور تاريخي تطوري. ونمثل لذلك بكتاب -
البلاغة تطور وتاريخ- للدكتور شوقي ضيف؛ باعتباره مدرسة قائمة الذات.

ب-
مرحلة التأليف من منظور حداثي لساني، يقدم رؤيا شاملة عن البلاغة العربية.
يدخل في هذا الإطار، عمل الباحث حمادي حمود - التفكير البلاغي عند العرب،
أسسه وتطوره إلى القرن السادس -(1981). وعمل الباحث العمري، امتداد لجهود
من سبقوه. لكن الدكتور العمري، قد حقق نتائج إيجابية من زاويتين:

1
- الزاوية المنهجية: إذ عمل الباحث على الانفتاح على آليات منهجية جديدة،
مستقاة من الشعرية البنيوية ونظرية التلقي. وأدمج آفاق الدرس البلاغي
العربي القديم بآفاق الدرس البلاغي الحديث، استنادا إلى خلفيات معرفية.
نذكر منهاالأوجه البلاغية للخطاب) لفونتانيي، (بنية اللغة الشعرية) لجون
كوهن. و (البلاغة والأسلوبية) لهنريش بليث الخ...

2 - الزاوية
المعرفية: ارتبطت بمجالي التنظير والممارسة- التحليل. إن هذين المجالين قد
ارتبطا بمجال التأريخ باعتباره أحد أسس البحث البلاغي عند الدكتور العمري.
ولعل سعي الباحث الى إنجاز تاريخ شامل للبلاغة العربية، أدى إلى إكتشافه
لأنساق خطاباتها البلاغية في حوار بين المشاريع والمنجزات، مما أدى إلى
تحقيق مايلي:

أ - تقديم قراءة شمولية لمختلف مكونات الحضارة الإسلامية والإنسانية.
ب- تصنيف جديد للبلاغة العربية.
ج- قراءة نسقية للمؤلفات البلاغية، والكشف عن بنياتها وأنساقها في علاقة بعضها بالبعض الآخر.
إن
الكتاب الذي بين يدينا، يعالج قضيتين أساسيتين: أولاهما، إظهار مدى غنى
البلاغة العربية، وكيف أن الصياغة المعتمدة في المدارس والجامعات حاليا،
ليست سوى قراءة واحدة للتراث العربي. أما الثانية، فهي زيف قضية الاختلاف
حول أصول البلاغة العربية: هل هي من أصل عربي محض أم من قراءة التراث
اليوناني. فالأصول العربية راسخة والأثر اليوناني قائم في حدود التفاعل
الحضاري.

عرض الكتاب

العمري (محمد)، البلاغة العربية، أحوالها وامتداداتها، ط1، دار افريقيا الشرق، الدار البيضاء (المغرب)،1999 .

@ الدكتور محمد العمري: أستاذ البلاغة والنقد الأدبي، جامعة محمد الخامس - الرباط.
له مؤلفات عدة، أهمها:
- تحليل الخطاب الشعري(1990)
- الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية (1991)
- بنية اللغة الشعرية لجون كوهن (ترجمة بالاشتراك مع محمد الوالي.).(1986)


الدكتور محمد العمري: أستاذ البلاغة والنقد الأدبي، جامعة محمد الخامس - الرباط.