سلسلة قصص شبابية هادفة .... نداء الروح
--------------------------------------------------------------------------------
عاش الفتى (فداء)الذي لم يتجاوز من العمر ال18 عاماً حياة رغيدة وعيشة راضية يكتنفها حنان الابوين والاهل والاحبة ...
كانت حياة هذا الشاب يتمناها اي فتى بعمره ...ولكن هو كان على العكس من ذلك تماماً...
في تلك الغرفة الهادئة وذلك اللحن الشجي وقطرات الندى التي تملأ اغصان الزيتون وهي تتدلى على نافذة غرفة الشاب ...
وانت تتجول في ارجائها تشاهد ذلك الاثاث الراقي والاثريات النفيسة والصور التاريخية والعائلية ...في تلك الغرفة الواسعة التي لم تبقي اي شيء من دلائل الرقي والمنزلة الرفيعة إلا وضمتها بين زواياها.
كان (فداء) يتحين الفرصة لكي يخلو بنفسه ويتحدث مع ضميره الذي يحس بأنه الشيء الوحيد الذي يستطيع ان يتحدث معه ويعبر عما يجول في خاطره...
بدأ يتمتم ببعض الكلام :
-إني على الرغم من هذا العيش الرغيد وحياة الترف والبذخ إلا اني احس ببعض النقص ما هو يا ترى !؟
على الرغم من ان والدي لم يقصر معي بأي شيء إلا اني احس بأنني أسلك الطريق الملتوي وليس الطريق المستقيم الذي يوصلني الى بر الأمان الذي أراده ربي لي ...
فيا لها من حياة بئست هكذا حياة لا تجلب لصاحبها إلا أمور الدنيا واللهو والمرح بعيداً عن العقل والاطمئنان ....
-عندما اسمع تلك الكلمات الروحانية التي تقطر شهداً على لسان قارئ القران الكريم وهو يقول :
"وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون "
أشعر بأني في عالم اخر غير الذي يريده مني الرب تعالى ...
بدأت دموع الندم والتوبة تنسال من عينيه الحزينتين راسمة سيلاً من الدموع على خديه...
أحس فتانا انها لحظات روحانية لا ينالها إلا من فتح قلبه للايمان ...
إنها لحظات خلوة الحبيب مع حبيبه ...
بدأ يُناجي ربه قائلاً :
-إلهي وسيدي وخالقي وربي ها هو ذا عبدك العاصي الجاني على نفسه ’الذي ملاء حياته بالذنوب ...يا حبيب قلبي يا رب أنت تدعونا إلى عبادتك ونحن نتهرب منك ...تدعونا إلى شكرك وفي ذلك رحمة وفوزٌ لنا حيث تقول :"لئن شكرتم لأزيدنكم"
ونحن مع ذلك لا نتعظ ولا نعتبر بما تقول ...فيا لنا من جاحدين لحقك ونعمك وألائك يا رب العالمين ...
_إلهي بأي شي اتوجه إليك هل بصلاتي التي لا تتجاوز بضع دقائق أم بجسدي الذي يتجه إليك وقلبي متجه ويفكر بغيرك ...هل هذا العمل سوف يوصلني إلى جنتك ونيل رضاك ..كلا وألف كلا ...
بدأ يجهش بالبكاء ’ أحس بأنه إن إستمر على هذا المنوال فإن الأهل سوف يشعرون به ..
مسح دموعه أحس بنشوة في جميع جوارحه وأعضائه لم يشعر بها من قبل تذكر قوله تعالى عندما سمع تلك الايات القرانية التي تتلى في بعض المآتم "ألا بذكر الله تطمأن القلوب".
مضت الأيام والليالي والأهل يحسون بأن إبنهم العزيز قد تغير ...فأصبحت صلاته في وقتها ويؤديها بشكلها الصحيح فأمست محور حياته الذي يدور حولها ’ وتلاوته للقران لا تفارقه ليل نهار ...
كان بطلنا (فداء) قد فكر في أمرٍ ما وأخذ بجوانبه وحيثياته ’ بعد تفكير طويل وتمحيص وغربلة للأمر في باله ’عقد العزم على تنفيذه ...
في صباح أحد الأيام بعد أداء صلاة الصبح وتلاوة بعض آيات القران الكريم ’ توجه إلى أمه التي كانت تعد الطعام في المطبخ ’ بعد التحية ’ خاطب أمه قائلاً:
-أماه هل أنت راضية عني ؟!
تفاجئت الأم من هكذا سؤال ’فأردفت قائلة :
-ما هذا السؤال يا (فداء) ’ وهل تشك في ذلك ؟
-لقد سألتك يا أماه يا حبيبة قلبي .. أجيببيني بالله عليك ؟
- نعم يا بني إني راضية عليك وأشكر الله تعالى أن منَّ علينا بهكذا ولد صالح ؟
-وهل أبي يشاطرك الشعور نفسه ؟
-نعم.
إنشرح صدره وعلت إبتسامة على وجنتيه ولكنها مخللة بالحزن والألم .. إنها آخر اللحظات ...إنها لحظات الوداع الأخير الذي لاعودة بعده أبداً ...
توجه إلى أمه وضع رأسه على صدرها بدأ بالبكاء وهو يقول لها :
-اماه هل تحبين الله ؟
-نعم.
-هل تؤمنين بكل ما يقدره الله لنا ؟
-نعم ’ أحست الأم بأن ولدها يُخفي عنها شيئاً .
-وهل تصبرين على ذلك والمولى يقول :"يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين "
-لقد فطرت فؤادي بكلامك ’ ماذا تريد أن تخبرني يا ولدي إنه تعالى يقول "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا "
-في تلك الأجواء العاطفية ’قبل جبهة والدته ’ أدار بوجه إلى الباب ...
تقدم خطوات ثم توقف ...أحس بأن أحداً ما يقول له إنظر إليها مرة أخيرة ..
أدار بوجه نحوها تصفح عينيها وملامح وجهها...
بعد ذلك إنطلق إلى حيث ترحاله الأخير ...إستأجر سيارة تاكسي ...إنطلقت به السيارة بعد أن حَمل معه بعض الحقائب ...
بقي فِكرُ (أُم فداء) عند ولدها فلم يهدأ لها بال بعد فترة من الوقت إتصلت بزوجها لكي تخبره بما جرى ...عندما سمع (أبا فداء) بالقصة انقبضت روحه وأحس برجفة غريبة قد إهتز لها بدنه ...
رجع إلى بيته بأسرع وقت وقد كرر الإتصال بولده مراتٍ عديدة ولكن الهاتف مغلق...إتصلوا بأصدقائه والأقارب ولكن لا أحد يعرف أين هو ...
ظلت العائلة في حالة من الحيرة والترقب ...
كانت السيارة في تلك الأثناء قد أوصلت (فداء) إلى أقرب منطقة حدودية ...إستطاع بعد فترة وجيزة من عبور الحدود والوصول إلى أقرب نقطة تفتيش كان يتمركز بها جيش العدو ...
-إنها اللحظة التي إنتظرتها ... وقد منَّ الله بها عليَّ ...قال (فداء)
إنطلق مهرولاً نحو نقطة تفتيش جيش الإحتلال ’في تلك الأثناء تطايرت وتلاطمت به صور الأهل والأحبة ولكن صورة الوالدة الأخيرة وعينيها البراقتين لم تفارقه أبداً...شعر أحد جنود الإحتلال بخطواتٍ تقترب منهم بدأ بالنداء على الجنود الآخرين ...
سحب أحدهم مسدسه
ولكن ....
الوقت قد فات وصل (فداء) إلى تلك النقطة وما إن حاول الجندي الضغط على الزناد .
وإذا بالمنطقة تشتعل ناراً ’واللهيب يعمُ المكان ’ تلبدت السماء بالغيوم السوداء الداكنة ...
علت أصوات صافرات الإنذار وأُعلنت المنطقة " منطقة عسكرية مغلقة " وأخذت قطعات ومصفحات جيش الإحتلال تحاصر المكان وتجوبه من كل صوب ...
لم تمضي بضع ساعات حتى أُذيع الخبر على قنوات التلفاز ...كانت عائلة الشهيد’ قد جلست في غرفة الإستقبال بإنتظار أي إتصال يخبرهم عن إبنهم
وإذا بصوت المذيع يتكلم :
-خبرٌ عاجل ...أفادت وكالات أنباء العدو أنَ إنفجاراً مدوياً قد حدث في إحدى نقاط تفتيش العدو مع الحدود الشمالية لبلدنا ...مما أدى إلى مقتل أغلب حرس تلك المنطقة وجرح الآخرين ..وقد أفادت معلوماتٍ مُطلِعة إن الإنفجار كان نتيجة عمليةٌ إستشهادية ’وبعد التأكد من هوية منفذها تبينَ أنه شاب من المنطقة الشمالية يُدعى (فداء أنور) ...
نزل هذا الخبر كالصاعقة على عائلة الشهيد ’ لم تتمالك الأم نفسها فوقعت مُغماً عليها ’ إرتفعت أصوات النحيب والبكاء من بيت الشاب المجاهد ’ الذي لم يتهاون لحظةً واحدة في الدفاع عن أرضهِ ونصرة وطنه وشعبه ودينه ...
وبعدَ عدة أيام من إتمام مراسيم الفاتحة ’ إتجهت إحدى الفتيات وهي اخت الشهيد إلى أمها مسرعة لتخبرها بأمرٍ مهمٍ جداً ’ دخلت الفتاة إلى غرفة أمها وهي بحالة من الإنفعال
-أماه ...أماه ...لقد وجدت هذه الرسالة في غرفة المرحوم عندما كنت أُنظفها .
أمسكت الأم الرسالة بيدين مرتجفتين وبدأت بقراءتها :
بسم الله الرحمن الرحيم
-الحمد لله الأول قبل خلق الكون والآخر بعد فناءه ’الحمد لله الذي أوجدنا من العدم وتفضل علينا بالعقل والإسلام والسمع والبصر ووو...
الحمد لله الذي لا يحمد سواه ..أشكره على جزيل عطائه ...وبأي شيءٍ أشكره هل أشكره على نعمة الوالدين ’ونِعمَ الوالدين أنتما ’ابي وهل هنالك أبٌ مثله ’ أم أمي التي إن فعلت أي شيءٍ لم اُوفها حقها ...
أماه...يا أحسن وأرق وأجمل وأحن أُم
يا من أتغنى بلفظ إسمها ...
في تلك الأثناء لم تتمالك الأم نفسها إنصبت دموعها غاسلةً رسالة إبنها العزيز...
أخذت الرسالة من جديد وإستمرت بالقراءة :
-أكتب هذه الرسالة وكلي أمل وشوق إلى ما وعد به ربي ’ حيث يقول "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون "
فقد تمنيت الشهادة منذ نعومة أظافري فكم عشقتها وحاولت الوصول إليها ’ ولكن مشيئة الله إلى الآن لم أصل إلى بُغيتي ...
عندما أسمع ما وعد به ربي الشهداء ’ أحسُ بأن بدني وجميع جوارحي تتلذذ بذلك العطر الفواح والكلام النوراني ’ورجائي من ربي أن يغفر لي ويرحمني فبعد هذه السنين من البُعد عن خالقي ’ لأتمنى الشهادة كي اغسل بها صفحات الماضي المظلم ’ وعسى أن تكون بها نجاتي ونيلي رحمة ربي ...
وها أنا أعود وأُذكركِ بكلام الله (عز وجل) "ولنبلونكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين *الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * اولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون "
أرجوا منكِ يا أُمي الغالية وأبي العزيز وأخوتي الأحباء أن تبرئون ذمتي أمام الله تعالى والسلام .....
إبنكم المُحب :
فداء
,,,النهاية,,,
--------------------------------------------------------------------------------